نبحر معاً... في سماء الكلمة والخبر..

حدث سياسي أمريكي مدو وغير مسبوق…؟!

بقلم/ د. صدقة يحي فاضل

تسمر الملايين من البشر، في كل أنحاء العالم، متعلمين ومثقفين، وغيرهم، مساء يوم الاربعاء 6 يناير 2021م، أمام شاشات التلفزة، ووسائل الاعلام والتواصل، المحلية والعالمية، لمشاهدة جلسة مجلس الكونجرس الامريكي، للمصادقة على نتائج انتخابات الرئاسة الامريكية، كما اتى بها مندوبي “المجمع الانتخابي” الامريكي للكونجرس. لم يكن هذا الاهتمام فقط بسبب كون أمريكا هي الدولة العظمى الاولى، وان لسياساتها تأثيرا (ايجابي وسلبي) يشمل كل العالم، بل وأيضا لان هذه الانتخابات كان يكتنفها صراع داخلي “مفتعل”، شنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، بهتانا، مدعيا أن هذه الانتخابات قد “زورت” و”سرقت” منه، وانه هو من فاز بها…؟! وذلك رغم اقرار منافسي وأصدقاء ترمب بأن تلك الانتخابات كانت من أنزه وأدق الانتخابات الرئاسية في تاريخ أميركا الحديث.
وبرهنت كل التحقيقات والمراجعات، والتحقيقات وأحكام المحاكم، أن هذه الانتخابات كانت نزيهة تماما، وأن الادعاء بوجود غش وتزوير فيها، لا يوجد الا على لسان هذا الرئيس الغريب. والمصيبة أن هذه الكذبة تم تصديقها، من قبل بعض أنصار ترمب، خاصة المتطرفين اليمينيين. فحاولوا “تعديل” النتيجة بالقوة، بناء على طلب وتشجيع من ترمب نفسه.
استنفد ترمب وأنصاره كل الطرق للطعن في هذه الانتخابات، وخاصة عبر اللجوء للمحاكم، واعادة العد، وما الى ذلك. ولكن، دون جدوى… فبعد كل طعن ومراجعة، تم التأكيد على فوز جو بايدن، وخسارة ترمب. ومع كل ذلك، ما زال ترمب، حتى بعد رحيله، غير المأسوف عليه، يصر، لغرض في نفسه، على أنه فاز في هذه الانتخابات، لولا “التزوير”…؟! وما زال بعض أنصاره يصدقون ذلك.
**
على ضوء ذلك التوتر القومي والدولي الذى خلقه ترمب، توقع المراقبون أن تحصل بعض الاضطرابات في واشنطن، أثناء جلسة الكونجرس هذه، لان ترمب توعد بحدوث أحداث كبرى، قبل 20 يناير. وحرض أنصاره من الغوغاء على التحرك، و”القتال بقوة، لإنقاذ البلاد” … ولكن أحدا لم يتوقع أن يخترق الغوغاء مبنى الكونجرس، ويهددوا أعضاءه، ويوقفوا جلسته، بل وينهبوا بعض مقتنياته. وهذا ما حصل… مفاجئا العالم بما لم يكن في الحسبان، ولا في التصور، منذ قيام الولايات المتحدة عام 1776م.
بــــدأ الكونجرس بمجلسيه، النواب والشيوخ، في جلسة موحدة، بمناقشة اعتماد نتيجة المجمع الانتخابي للولايات المتحدة، بحضور مندوبي كل الولايات الخمسين. وبعـــــد بدء الجــــــــلسة بقليل، لـــــــم يكتفى المتظاهرون الغوغائيون بالتظاهر السلمي، بل هاجموا مبنى الكونجرس ( The Capitol) ذاته، واقتحموه عنوة، ودخلوا الى أروقته، وقاعاته، فتوقفت الجلسة، وهرب النواب والشيوخ لأمكنة امنة. حيث لم يتمكن حرس الكونجرس من صدهم، ومنعهم من دخول المجلس، رغم مقاومته. وسقط خمسة قتلى، ومئات من الجرحى، نتيجة هذا الاقتحام.
**
كان منظرا بشعا ومرعبا، ورهيبا. وان لم يكن ذلك الاقتحام الجنوني الطائش ارهابا، فماذا يكون الارهاب؟! واللافت أنه وفى أثناء هذا الاقتحام، كان “الرئيس” ترمب، وابنه، وبعض مساعديه، في فناء البيت الابيض يراقبون هذا الاقتحام بحماس وغبطة وسرور، ويشجعون هؤلاء الغوغاء على “القتال”، لوقف اعتماد نتيجة الانتخابات، والحيلولة دون اعلان فوز جوزيف بايدن بالرئاسة. ويدفعهم ترمب للاحتجاج أكثر، قائلا لهم : أنا فخور بما تعملون. ثم أنكر، بعد ساعات، في بيان متلفز له، قدمه بناء على طلب ورجاء من بايدن، أنه حفزهم لفعل ما فعلوه…؟!
كان هذا التحرك ارهابا “محليا” امريكيـــا بامتياز، ترتكبه جماعات يمينية ( عنصرية) متطرفة، تؤيد ترمب، وتصدق ما قاله عن الانتخابات، وغيرها، رغم ثبوت العكس دائما. وكان هجوما صارخا على الديمقراطية، التي يبدو أن هؤلاء وبطلهم لا يؤمنون بها، الا ان فازوا هم. اضافة لكونه صفعة مريرة للنظام السياسي الامريكي، وما يرمز اليه في العالم. وقد لوحظ، في البدء، تراخيا في منع المتظاهرين من اقتحام مبنى الكونجرس. وعلق أحد الصحفيين الامريكيين على ذلك بقوله: لو كان المتظاهرون أمريكيون ملونين، لتم اطلاق النار عليهم. أما لو كانوا مسلمين، فسيوجهون بأسلحة تبيدهم فورا …؟!
ولكن، هذا الحدث أكد عمق تأثير “العنصرية”، وتأصلها في الحياة الامريكية. كما أكد انتصار أميركا، وانتصار ديموقراطيتها السريع، ووقع الخارجون على القانون في شر أعمالهم، كما سوف نوضح في المقال القادم.
**************

* أستاذ العلوم السياسية وعضو مجلس الشورى السابق

Print Friendly, PDF & Email
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.