يفترض أن يكون “الاعلام” – في أي مكان – لسان حال من يتبعه. ذلك من طبيعة الامور وبديهياتها. فالإعلام يعبر عن “واقع” معين، ويصفه ويوضحه. وكلما كان الاعلام حرا ولا يخضع سوى للقوانين العامة، كان أصدق وأدق. والعكس صحيح تماما. وللإعلام دور مؤثر في الاخرين، في المدى القريب، وقدرة على “تجميل”، أو ” تسفيه “، واقع أو وقائع معينة، أو أقوال وأفعال البعض واوضاعهم. وكلما جانب الحقيقة كلما أقترب من دائرة “الكذب” والتمويه، وانكشف أمره وبانت سوءته، وانصرف الناس عنه. فـ “حبل الاعلام المراوغ قصير” … وفى نهاية المطاف، فان الاعلام لا يمكن أن يبنى بيوتا لا عماد لها، أو يشيد قصورا في الهواء. يقول مثل حجازي شهير، تدليلا على عدم القدرة على تجميل القبيح في المدى الطويل: “تتعب المقينة في الوجه الغلس ” …؟! أي يصعب على خبيرة التجميل أن تزين وجهـا قبيحا أصلا. وهناك مثل مشابه وفى ذات الموضوع يقول ما معناه: “الجميل جميل ولو صحي لتوه من النوم” … بمعنى: يصعب تقبيح الجميل، أو تجميل القبيح، وان حاول البعض.
و” السياسة ” هي: الادارة العليا للبلاد، أي بلاد. وهي، في الجانب الاهم منها، عبارة عن: الاهداف التي يسعى طرف لتحقيقها تجاه طرف معين اخر، والوسائل التي يتبعها، أو يمكن أن يتبعها، لتحقيق تلك الاهداف. وأهم “وسائل” تحقيق أهداف السياسة، بصفة عامة، والسياسة الخارجية، بصفة أخص، هي: الدبلوماسية، والادوات الاقتصادية، ثم الاعلام والادوات النفسية، والقوة المسلحة أخيرا. وتظل الوسيلة الاعلامية محدودة التأثير في المدى الطويل، خاصة في حالات وجود مصادر اعلامية منافسة، أو محايدة، قوية ومسموعة وموضوعية، الى أقصى حد ممكن. وتصبح غير فعالة اطلاقا عندما تكون السياسات (الاهداف والوسائل) للطرف المعنى مؤذية، أو غير مقبولة من قبل غالبية المعنيين الاخرين. هنا يقع الاعلام “المدافع” في مأزق لا يحسد عليه.
****
ويتفاقم التعثر، على المستوى الدولي، في حالات عدم قيام الدولة – أي دولة – بالعملية السياسية الهامة، وهي: التنمية المستدامة، أو “تقوية الذات” بشكل ومضمون سليمين، أو فشل هذه التقوية. لذلك، تظل السياسات المقبولة (من قبل أغلب المعنيين) والتنمية الايجابية المتواصلة، هي الطريق الاسلم والاصح للبقاء والتقدم والازدهار، واكتساب تقدير واحترام الاخرين بالفعل. فعمل أي دولة على تقوية ذاتها ايجابا، بشكل سليم ومدروس ومتواصل، ونجاحها في ذلك، غالبا ما يضمن للدولة المعنية حاضرا جميلا، ومستقبل أجمل. وذلك هو أفضل وأقوى اعلام لصالحها. وهو يغرس بالفعل احترام الطرف المعنى في قلوب وأعين الناس، بشتى فئاتهم ومشاربهم. وغالبا ما يحصل العكس في حالة وجود سياسات لا تحظى بقبول ومباركة الغالبية المعنية، وتوقف عملية تقوية الذات، أو فشل التنمية وتعثرها.
ان السياسات النزيهة التي تقبل غالبية المعنيين بها، داخليا وخارجيا، هي خير “دعاية ” للطرف الذي يقوم بها. أما الدولة التي تتخذ سياسات لا تحظى بقبول معظم المعنيين، فإنها ستجد صعوبة بالغة، خاصة في المدى الطويل، في “تسويق” نفسها، كما تحب، وقبول المعنيين بها، واحترامهم لها، مهما تفننت في تمرير تلك السياسات اعلاميا. فالفيصل هنا هو مضمون سياساتها (لا ما تدعيه). هل هو مرض للغالبية المعنية أم لا؟! أما الطرف الذي لا يكترث برأي الغالبية، فلا يجب أن يضيع وقته وجهده في الكذب والادعاء الذي غالبا ما يزيد طينه بلة.
وبالنسبة لتنمية أي دولة، فإنها عملية مستمرة تعنى: قيام شعب وحكومة الدولة بتنمية واصلاح وتطوير وتقوية دولتهم (بمعنى ” القوة ” الشامل) لجعلها دائما دولة قوية محترمة، قادرة (لأقصى حد ممكن ومتصور) لحماية نفسها، وحفظ حقوقها ورعاية مصالحها، وضمان استقلالها وسيادتها، ورفع شأنها، بسواعد وعقول أبنائها. و”القوة” (Power) لا تقتصر على القوة المسلحة، بالطبع، وانما تشمل كل “عناصر” قوة الدولة الخشنة والناعمة، المعروفة. تنمية الذات تعنى: تنمية وتطوير هذه العناصر، بأساليب تنمية كل منها العصرية المعتمدة علميا وعالميا.
وكل دولة تواجه دائما، وبطبيعة الحال وطبيعة العلاقات الدولية، أخطارا وتحديات داخلية وخارجية شتى. وخير وأنجع وسيلة لمواجهة هذه التحديات هي: اتخاذ سياسات رشيدة مقبولة، من قبل أغلب المعنيين بهذه السياسات، وفى مقدمتهم شعبها. اضافة الى تقوية الذات (بالمعنى المشار اليه) وباستمـرار. أي تنمية وتطوير كل عناصر القوة فيها، بشكل متواصل. وهذا يحصل عندما يتوفر للدولة نظاما سياسيا سليما مستقرا وفاعلا. فالنظام المذكور هو الجهاز الذي يدير الدولة، ويوجهها اما للأمام أو الى الخلف.
ان تجاهل هذه الحقائق، غالبا ما يعنى: حصول تدهور متواصل في سمعة و”قوة” الدولة المعنية، أي دولة…وبالتالي، حصول تدهور متواصل في قدرتها على مواجهة التحديات المختلفة، وفى نوعية الحياة فيها، خاصة عندما لا يحصل تدهور وضعف مماثل في قوة الاطراف المنافسة لها. وفى هذه الحالات، لا يجب “لوم” الاعلام (على عجزه) بل لوم السياسة (على تقصيرها) …
**********************************************************