سعدت بصدور هذه الصحيفة الاليكترونية الفتية، لعدة أسباب، منها أن رئيس تحريرها صحفي نشط وطموح، أراه يصعد سلم الصحافة والاعلام المتميز بخطى ثابتة، ويعمل بخطة مدروسة، لتأسيس صحيفة ناجحة، بكل المقاييس. انه انسان يستحق الاحترام والتشجيع. وكذلك الفريق الذي معه. لذا، لم أتردد في الموافقة عندما طلب مني كتابة مقال أسبوعي لصحيفة “عصف” الغراء. ولا أعرف نفسي، في ميدان الصحافة والاعلام، الا كاتبا ومراقبا سياسيا. فالعلوم السياسية تخصصي، ومهنتي، ومجال اهتمامي الاول. ويبدو أن هذا النوع من المعرفة غير مطلوب، أو غير مرغوب. لذلك، لم تحظى مقالاتي، لا في هذه الصحيفة ولا في غيرها، كما يبدو، بإقبال شديد. وانى أتفهم ذلك، تماما. ولعل أهم اسباب العزوف الجماهيري عن السياسة، هو سوء فهم هذه الظاهرة التي تعتبر أهم ظاهرة في حيا الناس العامة، رغم أن الكثير يخشونها. كما أنها سلوك لصيق بكل انسان راشد عاقل، كما سوف نوضح هنا.
**
وسوف أحاول، في هذا المقال، توضيح أهمية هذه الظاهرة، بدءا بتعريفها. لعل هذا التوضيح يجلي الغموض الذى يكتنف هذه الظاهرة، والتي لا أنصح هنا بالاستغراق فيها، أو الادمان عليها، على أي حال. هناك عدة تعريفات دقيقة لظاهرة ” السياسة “، ربما يوضح مضمونها، وتحليلها، ماهية هذه السياسة، ودورها في حياة البشر . لنأخذ ما يمكن أن نشير إليه بـ “التعريف الشامل” لـ”السياسة”، والذي يؤكد أن السياسة في دم كل إنسان راشد عاقل. حيث تعرف “السياسة” بأنها : “الأهداف” التي يسعى طرف معين لتحقيقها، تجاه طرف آخر، و”الوسائل” التي يتبعها…. لتحقيق تلك الأهداف …
هذا يعنى: أن السياسة هي – بصفة عامة – سلوك إنساني عام ( ايجابي و/ أو سلبي) لطرف تجاه آخرين من بني جنسه. لنقف عند كلمة” طرف ” ( Party) لنرى ماذا يمكن أن تعنى. إن هذا الطرف هو – في نهاية الأمر – إنسان … سواء تجسد في صورته الفردية، أو في هيئة دولة، أو في صورة جماعية (منظمة أو غير منظمة، دائمة أو مؤقتة … الخ). بمعنى : إن “الإنسان” يمكن أن يظهر في هيئة منظمة، أو مجموعة، أو حكومة (دولة)… الخ . فالإنسان يمكن النظر إليه كفرد، أو حزب أو جماعة (منظمة أو غير منظمة) أو حكومة، أو سلطة بعينها …. الخ. وهذا ما يجعل “السياسة” من الإنسان واليه …. فهي تبدأ بالإنسان، وتنتهي به. إنها علاقات و”سلوك” هذا المخلوق العام تجاه الآخرين – وسواء كان هذا السلوك طيبا أم سيئا، بناءا أو مدمرا، ايجابيا أم سلبيا .
**
ويجانب الصواب من يحاول “فصل” (أو حتى عزل) السلوك السياسي تماما عن السلوك العام للإنسان ككل. كما يخطئ من يظن انه لا يتعامل بالسياسة (بمعناها الواسع) على مدار الساعة…فسواء اقر الإنسان بذلك أم أنكر، علم أو لم يعلم، شاء أم لم يشأ، فانه : طالما له علاقات و”سلوك” هادف تجاه الآخرين من حوله، فانه يمارس السياسة، وله بالضرورة “سياسة” تجاه هؤلاء الآخرين، كما إن للآخرين سياسة نحوه. وهؤلاء الآخرون يمكن أن يكونوا أقارب أو أصدقاء أو معارف، أو مجموعات أو منظمات أو حكومات… الخ.
صحيح، لقد تم “حصر” السياسة – في المعنى المتداول والمتخصص- في سلوكيات حكومات الدول… ليصبح تعريف “السياسة ” المتخصص (أو الضيق) القول بأنها : الأهداف التي تسعى حكومات الدول لتحقيقها، داخل وخارج حدودها، والوسائل التي تتبعها لتحقيق تلك الأهداف. ولكن المعنى العام للسياسة يغطى معظم سلوكيات الإنسان العامة، بكل صوره. وتبعا لذلك، فان كل إنسان راشد عاقل يمارس – بطبعه وبالسليقة ولكونه انسانا – السياسة … طالما كان مستيقظا ومتعاملا مع آخرين …
**
وقد مكن تبلور واستتباب هذه الحقيقة علماء السياسة من “تنظير” كثير من جوانب السلوك السياسي للإنسان (السياسي بالفطرة). وانطلاقا من : كون كثير مما “يصدق” على الإنسان الفرد يصدق (وينطبق إلى حد كبير) على الإنسان المجموعة أو التنظيم أو المؤسسة، أو الدولة، تم استنتاج الكثير من النظريات العامة، ذات المصداقية المعقولة. من ذلك : أن الإنسان (العاقل الراشد) غالبا يحاول أن لا يتخذ قرارا إلا إذا أيقن أن مكاسبه من اتخاذ ذلك القرار (السلوك) وتبنيه، تفوق ما قد يكون من خسائر، بالنسبة له. وهذا صحيح – إلى حد كبير – بالنسبة للسياسي ورجل الدولة، أو المسؤول … بل هو صحيح بالنسبة لأى إنسان (راشد عاقل) وفى أي صورة تجسد. بمعنى : إن “السياسي” (المسؤول) يفترض أن لا يتخذ قرارا إلا إذا تأكد (تماما) أن المكاسب التي ستتحقق (لمن اتخذ القرار باسمهم ولهم) اكبر من الخسائر التي قد تتكبدها الجهة التي اتخذ القرار لها وباسمها.
**
ولكن مهمة “السياسي”، ومسؤوليته، مضاعفة أضعافا. إذ عندما يتخذ الفرد قرارا، فان ما قد يجنيه من مكاسب (نتيجة سلوكه / قراره) تعود عليه – بصفة أساسية. كما إن الخسائر، التي قد تنجم عن ذلك السلوك، تلحق به وحده، أو (في أسوا الأحوال) تلحق به وبمن حوله من أهل ومعارف.
أما السياسي (المسؤول) فان ما ينتج عن قراراته (سلوكه) من مكاسب تعود على مجتمعه (الذي غالبا ما يعد بالملايين). كما أن ” الخسائر” تلحق بذلك المجتمع ككل، ولا تقتصر على السياسي / المسؤول متخذ القرار . لذا، كان من أهم خصائص السياسي الناجح أن تكون نتيجة قراراته (سلوكه) المكاسب منها أكثر من الخسائر . وهذا ما يوجب على السياسي أن يحكم (بمنتهى الدقة والمنطق والحذر) ميزان ” التكلفة / المنفعة” ( Cost / Benefit) أو : جردة المكسب / الخسارة. وكل ذلك يوجب على السياسي أن يكون ماهرا وحاذقا… يقدم “المصلحة العامة” على كل ما عداها … لان المفترض أن تكون المصلحة العامة غايته الأولى والأخيرة … وان يتجنب المزالق والانحرافات والأخطاء … كي لا يلحق أذى بآلاف، وربما ملايين، ممن يخدمهم.
**
وهناك خطا شائع يتضمن : عدم الثقة في السياسي، وإلصاق تهم الكذب والغش بـ “السياسيين” أكثر من غيرهم . وهذا غير صحيح على إطلاقه … لان السياسي هو – في نهاية الأمر – إنسان … له سلوكيات ايجابية وسلبية، كغيره من بني البشر. أما لماذا ينعت معظم الساسة بهذه الصفات أكثر من كثير غيرهم، فلان ما قد يرتكبونه من أخطاء وانحرافات وتجاوزات، تمس نتائجها وأضرارها الملايين … فيظهر الساسة وكأنهم أكثر الناس كذبا وخداعا.
وقد أبدع الفكر السياسي العالمي، وعلم السياسة، الضوابط و” الأساليب” التي تكفل “تهذيب” سلوك الساسة، واخضاعهم (دائما) للرقابة والمتابعة والمحاسبة وضبط سلوكهم وترشيده. والمجتمعات التي أخذت بهذه الأساليب حققت التقدم والتطور والقوة والمكنة … نتيجة تسخيرها لساستها ومسؤوليها لخدمة المصالح العامة الحقيقية لهذه المجتمعات… لا خدمة مصالح خاصة … غالبا ما تتعارض مع تلك المصالح العامة. فالإنسان (عاديا كان أم مسؤولا) ميال للاستبداد … وتقديم مصالحه الخاصة، على كل ما عداها… ما لم يكن هناك وازع، أو رادع ومحاسبة … ولا كابح له سوى “تنظيم”… يدفعه دفعا لخدمة المصالح العامة أولا وأخيرا.
لعل هذا التوضيح المختصر يسهم في تصحيح بعض الأخطاء الشائعة عن أهم شيء في حياة الناس العامة، ألا وهو “السياسة” التي “تدير” كل فعاليات المجتمع، بما في ذلك اقتصاده وثقافته وصحافته … والتي لا ينعقد أمر ايجابي أو سلبي – في الحياة العامة للناس– إلا بها وعبرها. والتي ان صلحت، صلح كل شيء في الحياة العامة. والعكس صحيح، ان فسدت.
**************
* أستاذ العلوم السياسية وعضو مجلس الشورى السابق