نبحر معاً... في سماء الكلمة والخبر..

إدارة أمريكية مختلفة وسياسات قديمة -جــديدة…؟!

بقلم/ أ.د/ صدقة بن يحي فاضل

في العلاقات الدولية الراهنة الكثير من المظالم، و”العجائب “والمتناقضات. من ذلك : اتخاذ الغرب المتنفذ الرسمي (خاصة بجناحه اليميني) منذ عقود، نحو كثير من دول وشعوب العالم، سياسات شبه استعلائية وسلبية، في بعض جوانبها، حتى وان كان تعامله مع أغلب الرسميين، العرب وغيرهم، لطيفا. ويمكن القول أن بعض السياسيين الغربيين “المحافظين”، وخاصة اليمينيين المتطرفين، بل وبعض اليساريين، بصفة عامة، لهم سياسات استعمارية متصهينة نحو العالم، وخاصة العالمين العربي والإسلامي. وهؤلاء الساسة ينظرون إلى العرب والمسلمين بخاصة، من منظار قاتم، ويتعاملون مع قضايا العرب بصلافة واستخفاف..
ويرى كثيرون أن هذه السياسات هي امتداد لما يمكن تسميته بـ “سياسات الغرب السوداء” تجاه العرب والمسلمين، والتي تعود للحروب الصليبية. وقد لوحظت هذه السياسات كثيرا في عهد الرئيس ترمب. وبمجيء ادارة “جوزيف بايدن” للسلطة في البيت الابيض، يمكن القول بأن السلطة التنفيذية في أكبر وأهم دول الغرب المتنفذ هي الان، ولأربع سنوات قادمة، على الاقل، في يد ساسة ليبراليين غربيين، يمثلون الوسط السياسي الغربي المعتدل. وهذا ما يوحي بتغيير (ايجابي طفيف) في السياسات الامريكية، أو هكذا يجب أن يقرأ هذا الحدث. فلقد أسفرت انتخابات الرئاسة الامريكية للعام 2020م، عن خسارة اليمين الغربي المتطرف (ممثلا بترمب) وفوز الوسط الأمريكي المعتدل (ممثلا ببايدن). وذلك سينجم عنه فرق، وان كان محدودا، وعودة لمسار سياسي عقلاني معهود.
**
أذكر أننا في عام 1980م، كنا طلبة مبتعثين، في مرحلة الماجستير بجامعة كليرمونت بكاليفورنيا. كان البروفيسور “فريد نيل” رئيسا لقسم العلاقات الدولية (تخرج فيه خمسة سعوديين بدرجة الدكتوراه، وستة بدرجة الماجستير، حتى تاريخه). وكان “نيل” يرتبط بصداقة وطيدة مع “جوزيف بايدن”. وكان يدعو بايدن لإلقاء محاضرة شهرية لنا في العلاقات الدولية. وأذكر من الزملاء الذين كانوا يحضرون تلك المحاضرات كل من : الدكتور سليمان توفيق، والدكتور عبدالمحسن هلال.
كان بايدن يحاضرنا عن علاقات أميركا بالاتحاد السوفييتي، المنافس الرئيس لأميركا في تلك الفترة. وكان “نيل” يمتحننا في مضمون محاضرات بايدن، الذى كان سيناتورا ديمقراطيا معتدلا، من ولاية ديلوير. كان بايدن، وما زال، كما يبدو، من أكثر الساسة الامريكيين ثقافة واطلاعا وخبرة في السياسة والقانون. اضافة الى تواضعه، واخلاقه الحسنة، ووسطيته.
**
وسنكتب المزيد عن أداء ترمب، وأسباب خسارته لاحقا. أما هنا، فسننظر للسياسات من منظور أشمل وأكبر، هو الرؤية الغربية العامة تجاه الغير. لقد اتسمت سياسات ترمب بسلبيات معروفة، بالنسبة لأمريكا وللعالم. وهذه الإدارة تسلمت حكم أمريكا وهي قوية ومتماسكة، وهى الان على وشك أن ترحل وأمريكا تعاني، على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الأمريكي، هناك انقسام اجتماعي- سياسي حاد بين الامريكيين “البيض”، وبعضهم عنصري، وبقية الامريكيين “الملونين”. وهذا الانقسام تجسد في نتيجة الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة. حيث صوت حوالي 74 مليون أمريكي لترمب، بينما صوت لبايدن حوالي 81 مليون أمريكي… في الانتخابات التي شهدت أعلى نسبة مشاركة ( Turnout) في الفترة المعاصرة.
عملت إدارة ترمب، من حيث تدري أو لا تدري، على اشعال فتن طائفية بتراخيها عن بعض الانتهاكات العنصرية، ضد الملونين الامريكيين. وعلى المستوى العالمي، كان هم ترمب الاساسي هو : تضخيم ثروته الخاصة، وخدمة اسرائيل، كما لم تخدم من قبل. وحاول مواصلة التمدد الامبريالي، بهدف : استمرار الصدارة الأمريكية لأطول فترة ممكنة، فلم يفلح كثيرا في تحقيق هذا الهدف، بسبب ما اتبعه من سياسات، اتسمت بالغطرسة والاستعلاء، وتجاهل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين، وارتكاب أخطاء استراتيجية انعزالية.
**
وبالنسبة للاقتصاد، بالغت ادارة ترمب في منع التدخل الحكومي (المنظم) في الاقتصاد، وتطرفت في التمسك بـ “الرأسمالية” المطلقة، التي تمعن في ترك الاقتصاد حراً مطلقاً، وتحظر أي “ضوابط” موسعة تنظم حركته، عبر تدخل حكومي مناسب، للحيلولة دون قيام رأسمالية مطلقة، قد تؤدي إلى فوضى اقتصادية، والى انفراد قلة من الشعب بالمال والنفوذ، ورضوخ الغالبية للفقر والعوز المضاعف. وجاءت أزمة وباء كورونا لتزيد الطين بلة، وتسبب شللا في الاقتصاد، وارتفاع غير مسبوق في نسبة البطالة. وأوقفت إدارة ترمب أغلب برامج إعانة المحتاجين من الشعب الأمريكي، بينما خفضت الضرائب على الأغنياء.
ودائما تثبت الرأسمالية المطلقة فشلها، وان نجحت مؤقتا في توفير بعض الاعمال. فالحالة الاقتصادية بأمريكا الان متدهورة، بسبب الغلو الرأسمالي، وأيضا جائحة كورونا. ويعمل الاقتصاديون في فريق بايدن لوضع الحلول المناسبة، والتي تجسد رأسمالية ذات ضوابط، وبحيث تضع الحكومة الضوابط، وتشرف على إنفاذها بدقة وصرامة، عبر : التدخل الحكومي المدروس والرشيد، والمكافحة الجادة للاحتكار. وهذا جوهر خطة بايدن، لإصلاح الاقتصاد.
**
لقد نتج عن سياسات إدارة ترمب المؤدلجة تدهورا نسبيا ملحوظا في المكانة العالمية لأمريكا، واستياء حلفاءها، في حلف ناتو وغيره، خاصة من مطالبات ترمب المتكررة والملحة بتحميلهم نفقات متزايدة. كما توشك أن تؤدى لبدء تداعي نظام القطبية الأحادية العالمي (الذهبي، بالنسبة لأميركا، شعبا وحكومة)… الذي غالباً ما سيتحول – في المستقبل المنظور – إلى نظام الأقطاب المتعددة. وتمثل هذه السياسات تركة ثقيلة… ستظل إدارة “جو بايدن” تنوء بحملها. وقد تتمكن هذه الإدارة (خلال فترتها الأولى) من التخفيف من وقعها، وتجاوز آثارها، وقد تعجز عن إصلاح ما أفسدته نرجسية ترمب. كل الاحتمالات تظل واردة… في ظل عودة السياسة الامريكية لمسارها المعروف والمعتاد قبل مجيء ترمب.

*أستاذ العلوم السياسية

Print Friendly, PDF & Email
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.